الاعجاز البياني
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
الاعجاز البياني
إن أسأتم فلها أو عليها
قال الله عز وجل :﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾(الإسراء:7) ، وقال سبحانه :﴿ مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ﴾(فصلت:46) ، وكان الظاهر يقتضي أن يقال في الآية الأولى وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَعَلَيْهَا ) ، بدلاً من ( فَلَهَا ) ، قياسًا على الآية الثانية وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ) .. فما وجه المخالفة بين الآيتين ؟
وفي الإجابة عن ذلك نقول بعون الله وتعليمه :
أولاً- الآية الأولى من هاتين الآيتين ﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ هي خطاب لليهود ، وفيها يقول الله عز وجل لهم : إن أحسنتم بطاعتكم لله سبحانه كان ثواب طاعتكم لأنفسكم ، وإن أسأتم بمعصيته كان عقاب إساءتكم لأنفسكم ، لا يتعدّى الإحسان والإساءة إلى غيركم . ووجه ارتباط لآية بما قبلها أن الله تعالى أخبر عن اليهود أنهم لما عصوا ، سلَّط الله عليهم أقوامًا قصدوهم بالقتل والنَّهب ، فعند ذلك ظهر أنهم أطاعوا ، فقال تعالى : إن أطاعوا فقد أحسنوا لأنفسهم ، وإن أصرُّوا على المعصية فقد أساءوا لأنفسهم .
وقد تقرَّر في العقول أن الإحسان إلى النفس حَسَنٌ مطلوبٌ ، وأن الإساءة إليها قبيحةٌ مذمومة . ومن أطاع الله وعمل صالحًا فقد أحسن إلى نفسه ، ومن عصى الله سبحانه فقد أساء إلى نفسه ، وهذا ما أخبرت عنه الآية الثانية ﴿ مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ﴾ ، حيث نصَّت على أن هذا الحكم هو حكم عام ، لا يقتصر على قوم دون قوم ؛ إذ بيَّن فيه سبحانه سنَّة من سننه التي لا تتخلف ، وهي ( أن الجزاء من جنس العمل ) ، فيجازي كلاً على عمله حسبما تقتضيه الحكمة ، خيرًا على الخير ، وشرًّا على الشرِّ ، ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ .
وقد أرسلت الجمل في هاتين الآيتين إرسال المثل ، وهذا من بلاغة الكلام ، ونظير آية فصلت قوله تعالى في سورة الجاثية :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ﴾(الجاثية:15) . قال الرازي بعد أن فرغ من الآية السابقة لهذه الآية :« ثم ذكر الحكم العام ، فقال :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ﴾ ، وهو مثل ضربه الله للذين يغفرون ، ﴿ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ﴾ مثل ضربه للكفار الذين كانوا يقدمون على إيذاء الرسول والمؤمنين وعلى ما لا يحل ، فبيّن تعالى أن العمل الصالح يعود بالنفع العظيم على فاعله ، والعمل الرديء يعود بالضرر على فاعله ، وأنه تعالى أمر بهذا ، ونهى عن ذلك لحظ العبد ، لا لنفع يرجع إليه ، وهذا ترغيب منه في العمل الصالح ، وزجر عن العمل الباطل » .
وقال أهل المعاني في آية الإسراء :« هذه الآية تدل على أن رحمة الله تعالى غالبة على غضبه ، بدليل أنه لما حكى عنهم الإحسان أعاده مرتين ، ولما حكى عنهم الإساءة اقتصر على ذكرها مرة واحدة . ولولا أن جانب الرحمة غالبٌ ، وإلاَّ لما كان ذلك » .
وقال الطبري :« ولم يقل : وإن أسأتم ، أسأتم لها ؛ فكأنه تعالى أظهر إحسانه بأن أعاده مرتين ، وستر عليهم إساءته بأن لم يذكرها إلا مرة واحدة ، وكل ذلك يدل على أن جانب الحسنة راجح على جانب السيئة » .
ثانيًا- واختلف النحويون والمفسرون في ( اللام ) التي في قوله تعالى :﴿ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ على أوجه :
أحدها : أنها بمعنى ( على ) . أي : إن أسأتم ، فعليها ترجع الإساءة ؛ كما قال تعالى في الآية الأخرى :﴿ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ﴾ .
الثاني : أنها بمعنى ( إلى ) . أي : إن أسأتم ، فإليها ترجع الإساءة ؛ كقوله تعالى :﴿ بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا ﴾(الزلزلة:5) . أي : أوحى إليها .
الثالث : أنها على بابها ؛ وإنما أتى بها دون ( على ) ، أو ( إلى ) للمقابلة في قوله تعالى :﴿ لأنْفُسكُمْ ﴾ .. وهذا الوجه هو الصواب ، والله أعلم ، وبيانه :
أن قوله تعالى :﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ﴾ جاء - كما قال ابن عاشور- على طريقة التجريد ، بأن جعلت نفس المحسن كذات يحسن لها ؛ فاللام لتعدية فعل ( أَحْسَنْتُمْ ) ، يقال : أحسنت لفلان ، ولا يقال : أحسنت على فلان . وكذلك قوله تعالى :﴿ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ . فقوله ( فَلَهَا ) متعلق بفعل محذوف بعد فاء الجواب ، تقديره أسأتم لها ) ، خلافًا لمن ذهب إلى أنه متعلق بخبر محذوف لمبتدأ محذوف ، دلَّ عليه فعل ( أسأتم ) ؛ لأنه لو كان كذلك ، لوجب أن يقال فعَلَيْهَا ) ؛ كما قال تعالى في سورة فصلت وسورة الجاثية :﴿ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ﴾ ، وعليه يكون تقدير الكلام في الآيتين هكذا :
( إِنْ أَحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ، وَإِنْ أَسَأْتُمْ أسَأْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ )
( مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ، وَمَنْ أَسَاء فَإِسَاءَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ ) .
قال الكرماني في الآية الأولى :﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ ، قال : « جاء ( فَلَهَا ) باللام ازدواجًا . يعني : أنه قابل قوله ( لِأَنْفُسِكُمْ ) بقوله ( فَلَهَا ) » .
وقال أبو حيَّان :« أتى بـ( اللام ) في فَلِنَفْسِهِ ) ؛ لأن المَحابَّ والحظوظ تستعمل فيها ( على ) الدالة على العلو والقهر ؛ كما تقول : الأمور لزيد متأتية ، وعلى عمرو مستصعبة » . وبذلك اختلف وجها الكلام في الآيتين .
وقال ابن عاشور :« ووجه المخالفة بين أسلوب الآيتين : أن ( آية فصلت ) ليس فيها تجريد ؛ إذ التقدير فيها : فعمله لنفسه ، وإساءته عليه . فلما كان المقدر اسمًا ، كان المجرور بعده مستقرًّا غير حرف تعدية ، فجرى على ما يقتضيه الإخبار من كون الشيء المخبَر عنه نافعًا فيخبر عنه بمجرور بـ( اللام ) ، أو ضارًّا فيخبر عنه بمجرور بـ( إلى ) . وأما ( آية الإسراء ) ففعل ( أحسنتم ) ، و( أسأتم ) الواقعان في الجوابين مقتضيان التجريد ، فجاءا على أصل تعديتهما بـ( اللام ) ، لا لقصد نفع ، ولا ضر » .
ونظير آية فصلت والجاثية قوله تعالى :﴿ قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ﴾(الأنعام:104) . أي : من أبصر فالإبصار لنفسه . أي : نفعه وثمرته . ومن عمي فالعمى عليها . أي : فجدوى العمى عائد على نفسه . وعدِّيَ فعل الإبصار باللام الدالة على الاستحقاق ؛ لأنه كناية عن النفع الذي يستحقه صاحبه ، وعدِّيَ فعل العمى بعلى الدالة على الاستعلاء ؛ لأنه كناية عن الضرِّ الذي يقع على صاحبه ؛ كما قال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم ﴾(يونس:23) ، فعدِّي البغي فيه بعلى الدالة على الاستعلاء ؛ لأنه كناية عن الضر الذي يقع على صاحبه ؛ ولهذا يكثر القول : هذا الشيء لك ، ويقال في ضدِّه : هذا الشيء عليك ، وفي الحديث :« القرآنُ حجةٌ لك ، أو عليك » . وقال توبة بن الحمير :
وَقَدْ زَعَمَتْ لَيلى بِأنّيَ فَاجِرٌ، ... لنَفسِي تُقَاهَا ، أوْ عَلَيها فُجورُهَا
وذلك أن ( اللام ) تدل على الاستحقاق ، وأن ( على ) تدل على الإلزام والإيجاب .
ثالثًا- ويتحصل مما تقدم :
1- أنه لا يجوز قياس قوله تعالى :﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾(الإسراء:7) على قوله :﴿ مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ﴾(فصلت:46) ؛ لأن الأول جاء على طريقة التجريد ، وليس كذلك الثاني .
2- أن قوله تعالى في الآية الأولى :﴿ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ جاء في مقابلة قوله :﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ﴾ ؛ ولهذا عدِّيَ كل من فعل الإحسان والإساءة بـ( اللام ) التي تدل على الاستحقاق ، وبذلك تتم المقابلة بين طرفي الآية هكذا إِنْ أَحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ، وَإِنْ أَسَأْتُمْ أسَأْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ) .
3- أن ( اللام ) في قوله تعالى فَلَهَا ) في آية الإسراء تدل على الاستحقاق ، وتعلقها بفعل محذوف ، تقديره إن أسأتم ، أسأتم لها ) . أما ( على ) في قوله تعالى :﴿ فَعَلَيْهَا ﴾ في آية فصلت ، فتدل على الإلزام والإيجاب ، وتعلقها بخبر محذوف لمبتدأ محذوف تقديره ومن أساء فإساءته على نفسه ) .
4- أنه يقال : هذا الشيء لك ، ويقال في ضدِّه : هذا الشيء عليك ؛ فـ( اللام ) في الأول للاختصاص ، وتدل على الاستحقاق ، و( على ) في الثاني للاستعلاء ، وتدل على الإلزام والإيجاب ، ومثل هذا يقال في : أساء لنفسه ، وأساء عليها
قال الله عز وجل :﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾(الإسراء:7) ، وقال سبحانه :﴿ مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ﴾(فصلت:46) ، وكان الظاهر يقتضي أن يقال في الآية الأولى وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَعَلَيْهَا ) ، بدلاً من ( فَلَهَا ) ، قياسًا على الآية الثانية وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ) .. فما وجه المخالفة بين الآيتين ؟
وفي الإجابة عن ذلك نقول بعون الله وتعليمه :
أولاً- الآية الأولى من هاتين الآيتين ﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ هي خطاب لليهود ، وفيها يقول الله عز وجل لهم : إن أحسنتم بطاعتكم لله سبحانه كان ثواب طاعتكم لأنفسكم ، وإن أسأتم بمعصيته كان عقاب إساءتكم لأنفسكم ، لا يتعدّى الإحسان والإساءة إلى غيركم . ووجه ارتباط لآية بما قبلها أن الله تعالى أخبر عن اليهود أنهم لما عصوا ، سلَّط الله عليهم أقوامًا قصدوهم بالقتل والنَّهب ، فعند ذلك ظهر أنهم أطاعوا ، فقال تعالى : إن أطاعوا فقد أحسنوا لأنفسهم ، وإن أصرُّوا على المعصية فقد أساءوا لأنفسهم .
وقد تقرَّر في العقول أن الإحسان إلى النفس حَسَنٌ مطلوبٌ ، وأن الإساءة إليها قبيحةٌ مذمومة . ومن أطاع الله وعمل صالحًا فقد أحسن إلى نفسه ، ومن عصى الله سبحانه فقد أساء إلى نفسه ، وهذا ما أخبرت عنه الآية الثانية ﴿ مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ﴾ ، حيث نصَّت على أن هذا الحكم هو حكم عام ، لا يقتصر على قوم دون قوم ؛ إذ بيَّن فيه سبحانه سنَّة من سننه التي لا تتخلف ، وهي ( أن الجزاء من جنس العمل ) ، فيجازي كلاً على عمله حسبما تقتضيه الحكمة ، خيرًا على الخير ، وشرًّا على الشرِّ ، ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ .
وقد أرسلت الجمل في هاتين الآيتين إرسال المثل ، وهذا من بلاغة الكلام ، ونظير آية فصلت قوله تعالى في سورة الجاثية :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ﴾(الجاثية:15) . قال الرازي بعد أن فرغ من الآية السابقة لهذه الآية :« ثم ذكر الحكم العام ، فقال :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ﴾ ، وهو مثل ضربه الله للذين يغفرون ، ﴿ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ﴾ مثل ضربه للكفار الذين كانوا يقدمون على إيذاء الرسول والمؤمنين وعلى ما لا يحل ، فبيّن تعالى أن العمل الصالح يعود بالنفع العظيم على فاعله ، والعمل الرديء يعود بالضرر على فاعله ، وأنه تعالى أمر بهذا ، ونهى عن ذلك لحظ العبد ، لا لنفع يرجع إليه ، وهذا ترغيب منه في العمل الصالح ، وزجر عن العمل الباطل » .
وقال أهل المعاني في آية الإسراء :« هذه الآية تدل على أن رحمة الله تعالى غالبة على غضبه ، بدليل أنه لما حكى عنهم الإحسان أعاده مرتين ، ولما حكى عنهم الإساءة اقتصر على ذكرها مرة واحدة . ولولا أن جانب الرحمة غالبٌ ، وإلاَّ لما كان ذلك » .
وقال الطبري :« ولم يقل : وإن أسأتم ، أسأتم لها ؛ فكأنه تعالى أظهر إحسانه بأن أعاده مرتين ، وستر عليهم إساءته بأن لم يذكرها إلا مرة واحدة ، وكل ذلك يدل على أن جانب الحسنة راجح على جانب السيئة » .
ثانيًا- واختلف النحويون والمفسرون في ( اللام ) التي في قوله تعالى :﴿ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ على أوجه :
أحدها : أنها بمعنى ( على ) . أي : إن أسأتم ، فعليها ترجع الإساءة ؛ كما قال تعالى في الآية الأخرى :﴿ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ﴾ .
الثاني : أنها بمعنى ( إلى ) . أي : إن أسأتم ، فإليها ترجع الإساءة ؛ كقوله تعالى :﴿ بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا ﴾(الزلزلة:5) . أي : أوحى إليها .
الثالث : أنها على بابها ؛ وإنما أتى بها دون ( على ) ، أو ( إلى ) للمقابلة في قوله تعالى :﴿ لأنْفُسكُمْ ﴾ .. وهذا الوجه هو الصواب ، والله أعلم ، وبيانه :
أن قوله تعالى :﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ﴾ جاء - كما قال ابن عاشور- على طريقة التجريد ، بأن جعلت نفس المحسن كذات يحسن لها ؛ فاللام لتعدية فعل ( أَحْسَنْتُمْ ) ، يقال : أحسنت لفلان ، ولا يقال : أحسنت على فلان . وكذلك قوله تعالى :﴿ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ . فقوله ( فَلَهَا ) متعلق بفعل محذوف بعد فاء الجواب ، تقديره أسأتم لها ) ، خلافًا لمن ذهب إلى أنه متعلق بخبر محذوف لمبتدأ محذوف ، دلَّ عليه فعل ( أسأتم ) ؛ لأنه لو كان كذلك ، لوجب أن يقال فعَلَيْهَا ) ؛ كما قال تعالى في سورة فصلت وسورة الجاثية :﴿ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ﴾ ، وعليه يكون تقدير الكلام في الآيتين هكذا :
( إِنْ أَحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ، وَإِنْ أَسَأْتُمْ أسَأْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ )
( مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ، وَمَنْ أَسَاء فَإِسَاءَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ ) .
قال الكرماني في الآية الأولى :﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ ، قال : « جاء ( فَلَهَا ) باللام ازدواجًا . يعني : أنه قابل قوله ( لِأَنْفُسِكُمْ ) بقوله ( فَلَهَا ) » .
وقال أبو حيَّان :« أتى بـ( اللام ) في فَلِنَفْسِهِ ) ؛ لأن المَحابَّ والحظوظ تستعمل فيها ( على ) الدالة على العلو والقهر ؛ كما تقول : الأمور لزيد متأتية ، وعلى عمرو مستصعبة » . وبذلك اختلف وجها الكلام في الآيتين .
وقال ابن عاشور :« ووجه المخالفة بين أسلوب الآيتين : أن ( آية فصلت ) ليس فيها تجريد ؛ إذ التقدير فيها : فعمله لنفسه ، وإساءته عليه . فلما كان المقدر اسمًا ، كان المجرور بعده مستقرًّا غير حرف تعدية ، فجرى على ما يقتضيه الإخبار من كون الشيء المخبَر عنه نافعًا فيخبر عنه بمجرور بـ( اللام ) ، أو ضارًّا فيخبر عنه بمجرور بـ( إلى ) . وأما ( آية الإسراء ) ففعل ( أحسنتم ) ، و( أسأتم ) الواقعان في الجوابين مقتضيان التجريد ، فجاءا على أصل تعديتهما بـ( اللام ) ، لا لقصد نفع ، ولا ضر » .
ونظير آية فصلت والجاثية قوله تعالى :﴿ قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ﴾(الأنعام:104) . أي : من أبصر فالإبصار لنفسه . أي : نفعه وثمرته . ومن عمي فالعمى عليها . أي : فجدوى العمى عائد على نفسه . وعدِّيَ فعل الإبصار باللام الدالة على الاستحقاق ؛ لأنه كناية عن النفع الذي يستحقه صاحبه ، وعدِّيَ فعل العمى بعلى الدالة على الاستعلاء ؛ لأنه كناية عن الضرِّ الذي يقع على صاحبه ؛ كما قال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم ﴾(يونس:23) ، فعدِّي البغي فيه بعلى الدالة على الاستعلاء ؛ لأنه كناية عن الضر الذي يقع على صاحبه ؛ ولهذا يكثر القول : هذا الشيء لك ، ويقال في ضدِّه : هذا الشيء عليك ، وفي الحديث :« القرآنُ حجةٌ لك ، أو عليك » . وقال توبة بن الحمير :
وَقَدْ زَعَمَتْ لَيلى بِأنّيَ فَاجِرٌ، ... لنَفسِي تُقَاهَا ، أوْ عَلَيها فُجورُهَا
وذلك أن ( اللام ) تدل على الاستحقاق ، وأن ( على ) تدل على الإلزام والإيجاب .
ثالثًا- ويتحصل مما تقدم :
1- أنه لا يجوز قياس قوله تعالى :﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾(الإسراء:7) على قوله :﴿ مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ﴾(فصلت:46) ؛ لأن الأول جاء على طريقة التجريد ، وليس كذلك الثاني .
2- أن قوله تعالى في الآية الأولى :﴿ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ جاء في مقابلة قوله :﴿ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ﴾ ؛ ولهذا عدِّيَ كل من فعل الإحسان والإساءة بـ( اللام ) التي تدل على الاستحقاق ، وبذلك تتم المقابلة بين طرفي الآية هكذا إِنْ أَحْسَنْتُمْ أحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ، وَإِنْ أَسَأْتُمْ أسَأْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ) .
3- أن ( اللام ) في قوله تعالى فَلَهَا ) في آية الإسراء تدل على الاستحقاق ، وتعلقها بفعل محذوف ، تقديره إن أسأتم ، أسأتم لها ) . أما ( على ) في قوله تعالى :﴿ فَعَلَيْهَا ﴾ في آية فصلت ، فتدل على الإلزام والإيجاب ، وتعلقها بخبر محذوف لمبتدأ محذوف تقديره ومن أساء فإساءته على نفسه ) .
4- أنه يقال : هذا الشيء لك ، ويقال في ضدِّه : هذا الشيء عليك ؛ فـ( اللام ) في الأول للاختصاص ، وتدل على الاستحقاق ، و( على ) في الثاني للاستعلاء ، وتدل على الإلزام والإيجاب ، ومثل هذا يقال في : أساء لنفسه ، وأساء عليها
يحي13- عضو اساسي
- عدد المساهمات : 122
تاريخ التسجيل : 28/01/2012
العمر : 49
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى